جواب عن سوال حول الموروث الشيعي الروائي
 
بسمه تعالى
 بعد التحية والسلام
            عندنا سؤال يتعلّق بما يجري على الساحة الشيعية في هذه الأيّام نرجوا من سماحتكم التفضل ببيان ما هو الصحيح والذي فيه تنوير للأذهان .
            سيّدنا ينقل عن بعض الأشخاص أنّ الكثير من الموروث الروائي الشيعي هو مدسوس ومنقول عن كعب الأحبار ومن اليهودية والنصرانية والمجوسية، فما هو رأيكم بذلك
 
  جمع من طلبة الحوزة العلمية /  النجف الأشرف
 
 بسم الله الرحمن الرحيم
 
            هذا الكلام لا يصدر إلاّ عن جاهل بتراث المذهب الإمامي ، وقد سبق مثل هذا اللون من الاتهامات الزائفة من قبل آخرين مضلَّلين بتحريك أو احتضان قوى الاستكبار العالمي لضرب وحدة الاُمّة الإسلامية وإلقاء الفتنة بين طوائف المسلمين ومذاهبهم ، وتحريض الجماعات التكفيرية المارقة عن الدين الحنيف والذين يمثلون اليوم خوارج هذا العصر والزمان لمزيد الفتك والقتل ونشر الموت والدمار في بلاد الإسلام والمسلمين .
            ونحن نرجو أن لا يكون هذا الشخص متأثراً باُولئك وإن شابههم في الكلام والاتهام للتراث الشيعي واستغلّ أيضاً من قبل التكفيريين ضد المذهب والدين .
            والحقيقة الناصعة التي لا تقبل الشك لدى أهل العلم والصلاح أنّ التراث الشيعي الأصيل المتمثل في الموروث من مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) والمذهب الإمامي لهو أنقى موروث ديني في التاريخ الاسلامي وأبعده عن التحريف أو التأثر بأهواء ومطامح الحكّام الجائرين أو اندساس المنحرفين والاتجاهات الدخيلة على الإسلام فيه ; لأنّه التراث الذي نشأ وترعرع بعيداً عن دوائر الحكومات والسلاطين وأهوائهم ومطامحهم الفاسدة وسعى في حفظه وضبطه وحراسته ونقله إلى الأجيال اللاحقة أتقى الناس ديناً وأورعهم نزاهة وأجلّهم قدراً وعلماً من أعلام الاُمّة وأصحاب أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) وفقهاء مدرستهم العظام ممن شهد بجلالة قدرهم وعظمتهم كتب التاريخ والسير وعلماء الإسلام من المذاهب الاُخرى .
            وهذا التراث الإسلامي يمتاز عن غيره بأنّه المتلقى والموروث مباشرة عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) من خلال السلسلة الذهبية المباركة وهم الأئمّة الاثنا عشر من أهل بيت النبي (عليهم السلام) يداً بيد وبنقل الإمام عن أبيه الإمام حتى يصل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما أكّد عليه أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أنفسهم; ولهذا كان هذا التراث هو المجسّد والممثل للإسلام الأصيل وهو الامتداد الصحيح لخط الرسالة والشريعة الإسلامية المباركة ، والذي كان له الدور الكبير في صون معالم الشريعة وتقييم حقائقها عن الأباطيل وتعيين الصواب منها عن المبتدع في التراث الإسلامي العام وبكل مذاهبه فهو التراث النبوي الخالص عن التحريف والدس والذي ببركته خلصت المذاهب الإسلامية الاُخرى أيضاً وحفظت عن السقوط والتحريف المطلق بيد الحكام والجائرين عبر التاريخ كما حصل ذلك في تراث الديانات السماوية الاُخرى .
            ومن لا يفهم هذه الحقيقة ويشكك في التراث الشيعي أو معظمه متحذلقاً ببعض المصطلحات والألفاظ التي حفظها من دون تعمّق وتحقيق لم يذق طعم الفقه ولا يفهم الموروث الشيعي الذي
سعى واجتهد فقهاء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ورواة أحاديثهم الأبرار جيلاً بعد جيل على حفظه وتهذيبه وتوثيقه وصيانته عن التحريف ، وقد شرحنا ذلك بتفصيل في مقدمة موسوعتنا الفقهية الكبرى  ( دائرة المعارف الإسلامية طبقاً لمذهب أهل البيت (عليهم السلام) ) لدى التعرّض إلى مراحل تطور الفقه الإمامي وأدواره ، فمن أراد التوسّع فليراجع تلك المقدمة .
            وأمّا ما ذكر من أنّ معظمه أو الكثير منه منقول عن كعب الأحبار ومن اليهودية والنصرانية والمجوسية .
            فأوّلاً ـ إنّا لم نسمع باتهام الموروث الروائي الشيعي بالمجوسية والنصرانية من أحد سوى ما ردده النظام الصدامي الكافر المقبور في الآونة الأخيرة عند حربه ضد الجمهورية الإسلامية بأنّ الشيعة من المجوس ، والعالم يدرك عداوة صدام وأكاذيب حزبه العفلقي النصراني المعادي للإسلام وخدمته وعمالته لأسياده الكافرين والمستكبرين في قبال المدّ الإسلامي بكل مذاهبه .
            وثانيـاً ـ بالنسبة إلى كعب الأحبار الذي كان يهودياً ومن أهالي اليمن وادّعي أنّه أسلم بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنّه قدم المدينة أيّام عمر فمن يراجع كتب الرجال والحديث يظهر له بوضوح برائة الموروث الشيعي بالخصوص من روايات وأفكار هذا الرجل وأمثاله ، وقد كان أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)وأصحابهم متحفظين عنه وعن رواياته ومناوئين له، بل كانوا يرونه كذاباً منحرفاً عن خط أهل البيت (عليهم السلام) ، وإنّما نقل رواياته وتأثّر به أمثال أبو هريرة ومعاوية وأسلم مولى عمر وعطاء بن يسار من الصحابة والتابعين المخالفين لخط أهل البيت (عليهم السلام) ومذهبهم .
            وقد نقل الشيخ الكليني في الكافي رواية صحيحة السند عن زرارة عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام)في حقه قال: « كنت قاعداً إلى جنب أبي جعفر (عليه السلام) وهو محتب مستقبل الكعبة ، فقال : أما أنّ النظر إليها عبادة ، فجاءه رجل من بجيلة يقال له عاصم بن عمر فقال لأبي جعفر (عليه السلام): إنّ كعب الأحبار يقول : إنّ الكعبة تسجد لبيت المقدس في كل غداة ، فقال أبو جعفر (عليه السلام) : فما تقول فيما قال كعب ؟ فقال : صدق القول ما قال كعب . فقال أبو جعفر (عليه السلام) : كذبت وكذب كعب الأحبار معك وغضب. قال زرارة: ما رأيته استقبل أحداً بقول كذبت غيره . . . » ( ج4 ، ص 240 ) .
            وفي شرح النهج لابن أبي الحديد : « روى جماعة من أهل السير أنّ عليّاً (عليه السلام) كان يقول عن كعب الأحبار أنّه الكذّاب ، وكان كعب منحرفاً عن علي (عليه السلام) » . ( شرح ابن أبي الحديد 4 : 77 ) .
            وهكذا يكون كعب الأحبار كذّاباً عند المذهب الإمامي منحرفاً عن خط أهل البيت (عليهم السلام) ولا توجد له رواية في فقهنا أو كتب أحاديثنا .
            بينما نجد أنّ بعض المذاهب الاُخرى غير المذهب الشيعي قد اعتمد على أحاديثه ونقلها بعضهم في سنن الأحاديث ، كما أنّ البعض مدحه ضمن طبقات الصحابة أو التابعين .
            قال الذهبي ـ وهو أحد أعلام الرجاليين من أهل السنة في ترجمته ـ : ( العلاّمة الحبر الذي كان يهودياً فأسلم بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قدم المدينة من اليمن في أيّام عمر وجالس أصحاب محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)فكان يحدّثهم عن الكتب الاسرائيلية ويحفظ العجائب ـ إلى أن قال ـ حدّث عنه أبی هريرة ومعاوية وابن عباس وذلك من قبيل رواية الصحابي عن تابعي وهو نادر عزيز، وحدّث عنه أيضاً أسلم ( مولى عمر ) وتبيع الحميري ابن امرأة كعب، وروى عنه عدة من التابعين كعطاء بن يسار وغيره مرسلاً وقع له رواية في سنن أبي داود والترمذي والنسائي ) . ( سير أعلام النبلاء 3 : 489 ) .
            وعرّفه الذهبي أيضاً في بعض كتبه : ( بأنّه من أوعية العلم ) . ( تذكرة الحفّاظ 1 : 52 ) .
            ومن حسن الحظّ أنّه قد تفطّن بعض أعلام المذاهب الاُخرى أيضاً إلى حقيقة هذا الرجل وأكاذيبه، كما أنّ ابن عباس من الصحابة وأتباع علي (عليه السلام) أيضاً كان يرى أنّ هذا الرجل كذّاب يريد ادخال اليهودية في الإسلام .
            قال الطبري في تاريخه: ( عن عكرمة قال: بينا ابن عباس ذات يوم جالس إذ جاءه رجل فقال: يا  ابن عباس سمعت العجب من كعب الحبر يذكر الشمس والقمر، قال: وكان متكئاً فاحتفر ثمّ قال: وما ذاك ؟ قال: زعم يُجاء بالشمس والقمر يوم القيامة كأنّهما ثوران عقيران فيقذفان في جهنم، قال عكرمة: فطارت من ابن عباس شفة ووقعت اُخرى غضباً، ثمّ قال : كذب كعب، كذب كعب، كذب كعب ، ثلاث مرّات ، بل هذه يهودية يريد إدخالها في الاسلام، الله أجلّ وأكرم من أن يعذّب على طاعته، ألم تسمع قول الله تبارك وتعالى: ( وسخّر لكم الشمس والقمر دائبين ) إنّما يعني دؤوبهما في الطاعة فكيف يعذّب عبدين يثني عليهما انّهما دائبان في طاعته ؟ قاتل الله هذا الحبر وقبّح حبريّته، ما  أجرأه على الله وأعظم فريته على هذين العبدين المطيعين لله، قال : ثمّ استرجع مراراً ) . ( التاريخ الكبير 8 : 164 ) .
            وقال ابن كثير في تفسيره بعد ما أورد طائفة من الأخبار في قصة ملكة سبأ مع سليمان (عليه السلام) نقلها عن أبی هريرة : ( والأقرب في مثل هذه السياقات انّها متلقاة عن أهل الكتاب مما وجد في صحفهم كروايات كعب ووهب ـ سامحهما الله تعالى ـ في ما نقلاه إلى هذه الاُمّة من أخبار بني اسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب مما كان ما لم يكن وممّا حرِّف وبُدِّل ونُسخ، وقد أغنانا الله سبحانه عن ذلك بما هو أصحّ منه وأنفع وأوضح وأبلغ ) . ( التفسير ، قسم سورة النحل 3 : 339 ) .
            وهكذا ترى أنّ مثل هذه المزاعم والافتراءات الكاذبة بحق مذهب أهل البيت (عليهم السلام) لا تصدر إلاّ عن جاهل لا يفهم الحقائق الثابتة أو مغرض يعادي مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)أعاذنا الله تعالى من شرورهم ، والحمد لله ربّ العالمين .
 
السيد محمود الهاشمي الحسيني
 

http://hashemishahroudi.org/ar/news/172